مرحبًا بكم في حلقة جديدة، وسنتحدث اليوم عن خليفة من الخلفاء الذين لعبوا دورًا هامًا في استقرار الدولة الأموية وحفظها، ووضعوا العديد من القواعد في جوانب مختلفة، سواء كانت سياسية أو إدارية. وليس ذلك فقط، بل قاموا أيضًا بالحفاظ على استقرار الدولة ومنع انهيارها قبل أن يحدث. والشخصية التي سنتناولها اليوم هي هشام بن عبد الملك.
جدول المحتويات
هشام بن عبد الملك: الخليفة العاقل والمدبر في عصر الأمويين
اسمه هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبده شمس القرشي، وهو الخليفة العاشر والرابع من أبناء عبد الملك. وُلد في المدينة في السنة الهجرية 72، في نفس العام الذي قتل فيه والده مصعب بن الزبير. وكان له أيضًا لقب “منصور” لأنه كان يتفائل بذلك الاسم، وأطلقت عليه والدته اسم هشام نسبةً إلى والدها.
وتربى هشام بتربية حسنة، وكان رجلاً عاقلاً ومدبرًا لدرجة أنه مقارب لشخصيتي معاوية وعبد الملك. وكانت لديه صورة جميلة وعينه حولته إلى محور البني أمية، وكانت له علاقة سيئة مع خالد القصري، أمير العراق. فقد قال خالد بيتًا يصف الشخص الحول (أي الذي لديه عين حولتها) في عين هشام بن عبد الملك، فأمر هشام بقطع رأسه.
هشام بن عبد الملك: قائد مغوار والخلف الوافد
هشام بن عبد الملك، الذي كان قائدًا في فترة حكم أخيه الوليد بن عبد الملك، تألق في معاركه ضد بلاد الروم، وحقق العديد من الانتصارات رغم صغر سنه. ومن الجدير بالذكر أنه كان ينتمي إلى المعارضين لخلافة عمر بن عبد العزيز، حيث كان يطمح في أن يصبح الخليفة بنفسه. وعلى الرغم من ذلك، وافق على تولي عمر الخلافة بالقوة، وسانده أخوه يزيد في الولاية العهدية.
كان هشام يقيم في مكان يُعرف بالرصافة، البعيد عن دمشق. وعند وفاة أخيه يزيد، وصل إليه البريد بشرى توليه الخلافة. قدموا له العصا والخاتم التي ترمز لسلطة الخليفة، وأدى الناس البيعة له في أول رمضان من السنة 105 هجريًا، وكان عمره آنذاك 34 سنة.
هشام بن عبد الملك: حكم الحكمة والتدبير في عهد الخلافة
تولي هشام بن عبد الملك الخلافة أثار فرحة الناس، إذ كانوا يعرفونه بحكمته وعقله الرشيد. عاد هشام إلى الرصافة مرة أخرى واستقر فيها، حيث كانت تبعد عن وباء الطاعون. وبالإضافة إلى ذلك، كان يحب هذا المكان وبنى فيه قصرين وعاش فيهما.
وكان الناس على علم بأن الفتن والثورات كانت تنشط أيام يزيد. كما كان أعضاء عائلة العباس يعملون سرًا لإسقاط الدولة الأموية. واعتمد هشام بن عبد الملك اعتمادًا كبيرًا على أفراد عائلته، وعيَّنهم في مواقع قيادية، بالإضافة إلى تعيينه العديد من الكتاب لأداء مهام الوزراء وإدارة الدواوين.
وبالطبع، كان لأمير الحج أهمية دينية وسياسية كبيرة. كان يدير شؤون الحج ويتعامل مع المشاكل التي تنشأ خلاله. وبالتالي، كانت إمارة الحج تقتصر على الخليفة هشام بن عبد الملك أو أحد أبنائه أو المقربين منه في عائلته.
هشام بن عبد الملك: حافظ الأخلاق والقوانين في عهد الخلافة
في فترة حكمه، كان هشام بن عبد الملك يهتم بتربية أولاده وتعليمهم أهمية أداء الصلاة جماعة. وكان يعاقبهم عندما يتركونها. في إحدى المرات، اكتشف هشام أن ابنه لم يحضر صلاة الجمعة، فسأله عن السبب، فأجاب الابن بأن الدابة التي كان يركبها توفيت. فرد هشام قائلاً: “أفعجزت عن المشي فتركت الجمعة”. قام هشام بمنعه من ركوب أي دابة لمدة سنة كاملة. وكان يعاقب بشدة أولئك الذين ينحرفون عن الطريق الصحيح.
في أيام خلافة هشام، حدث خطأ من رجل يدعى الجعد بن درهم في تلاوة القرآن. فأرسله هشام لخالد القسري، الأمير على العراق، مُكلفًا إياه بقتله. ولكن خالد قرر أن يحتجزه بدلاً من قتله. عندما علم هشام بذلك، كتب رسالة لخالد ينتقده ويصر على قتل الرجل. فأطلق خالد سراحه وهو مقيد، وعند صلاة عيد الأضحى، أعلن هشام في خطبته الأخيرة قائلاً: “انصرفوا واضحوا، يقبل الله منكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول: ‘ما كلم الله موسى ولا اتخذ إبراهيم خليلا’ تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا”. ثم خرج هشام وقتل الجعد بن درهم.
كان هشام بن عبد الملك يأمر بقتل أي شخص يرتكب خطأ، خاصةً في تلاوة القرآن. ولم يكتفِ بمجرد معاقبة المخالفين، بل كان يحرص على حفظ أموال الدولة وتنظيمها بدقة.
هشام بن عبد الملك: الخليفة العادل وحافظ لمصالح المسلمين
في عهد هشام بن عبد الملك، كان يولي اهتمامًا كبيرًا لمصالح المسلمين ويدافع عن حقوقهم. كان يعتمد على العدالة والاستقامة في اتخاذ القرارات، وكان لديه سمعة معروفة بنزاهته وعدله. ومن بين الأدلة التي تشير إلى ذلك، قصة اليتيم الذي أسجنه القاضي يحيى بن ميمون في مصر.
قام هشام بكتابة رسالة إلى الخليفة يشرح فيها الظلم الذي تعرض له اليتيم، وبمجرد التأكد من أن القاضي ليس منصفًا، أمر بعزله وتعيين رجل تقي وعادل يطبق تعاليم الإسلام. هذه القصة تدل على عدالة هشام ورغبته في حماية شعبه ومصالحهم، وكان يتجنب الظلم والقتل والدماء.
هشام كان رحيمًا ويكره الظلم، وكان يفضل تعيين الأشخاص الصالحين في المناصب الحكومية. في إحدى المرات، أراد هشام تعيين إبراهيم بن أبي عبلة خراجًا لمصر، ولكنه رفض القبول. غضب هشام بشدة وأمر بتعيينه بالقوة.
ولكن أثناء الاحتجاج الصامت من قبل إبراهيم، تهدأ هشام وقال له: “يا أمير المؤمنين، هل يمكنني أن أتكلم؟”. فأذن له بالكلام، وقال إبراهيم: “إن الله قال في كتابه العزيز: ‘إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان، إنه كان ظلومًا جهولًا'”. فابتسم هشام وعفا عن إبراهيم وأعفاه من هذا المنصب.
هشام بن عبد الملك يظهر من خلال هذه القصص عدالته ورقي قراراته، ورغبته في الحفاظ على العدل ومصلحة المسلمين.
هشام بن عبد الملك: الحافظ العادل للأموال والمالية المحكمة
كان هشام بن عبد الملك يستمع إلى شكاوى وتظلمات الجميع، وكان يرد على المظالم ويعاقب الظالمين. ووصف الناس الخليفة هشام بحسن السياسة والعقل والتدبير. وقيل أن السواس من بني أمية يتضمن ثلاثة: معاوية بن أبي سفيان وعبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك.
كان هشام بن عبد الملك يعمل على شمول الرعية بالعدل والمساواة، وكان ينشئ جواسيس لمراقبة أعمال الولاة ومخالفاتهم. وقال عنه أبو جعفر المنصور: “هشام رجل القوم”.
ومع ذلك، كان هشام حريصًا جدًا على جمع المال. ووصفوه بأنه حريص وبخيل، وقيل إنه جمع أموالًا أكثر مما جمعه أي خليفة قبله. وكان لا ينفق على الهدايا أو الهبات. وقال هشام إنه يحمي مال المسلمين.
واهتمامه الشديد بحفظ المال يعكس حسن تدبيره وأمانته تجاه الخزائن. كان يراقب العملة بنفسه، ويضبط الحسابات بعناية، وينظم الدواوين والميزانية. ولم يكن هناك مجال لضياع أي مال تحت حكم هشام. وكانت النفقات قليلة، لأن الخليفة هشام كان مسئولًا ومدبرًا، ولم يحدث أي عجز في الميزانية. وكان شديد التدقيق مع العمال، وكان يعاقب على أي تقصير يحدث.
هشام بن عبد الملك: الراعي للتوسع البحري والنجاح العسكري
بالإضافة إلى اهتمامه بالقضايا المالية والإدارية، اهتم هشام بن عبد الملك أيضًا بتطوير القوة البحرية. قام بتجديد قاعدة بناء السفن الحربية في تونس وأمر بتوسيعها. كما أمر بحفر الترع والأنهار والسدود والقنوات الرئيسية. وفي عهده، توسعت الدولة الأموية إلى أقصى حدودها.
وفي هذا الوقت، وصل الجيش الإسلامي إلى فرنسا وشارك في معركة مشهورة تعرف باسم “معركة بلاط الشهداء” في العام 114 هجريًا. تم اختيار هذا الاسم للمعركة نظرًا للعدد الكبير من المسلمين الذين استشهدوا فيها بعد معارك شديدة استمرت لمدة تقريبًا ثمانية أيام. بعد ذلك، انسحب الجيش الإسلامي بسبب الخسائر الكبيرة التي لحقت بالمسلمين. واستمرت المناوشات بين الجيشين لفترة، واستمر الجهاد وانتشر الإسلام. ومع ذلك، فإن هشام بن عبد الملك حزن وتأثر كثيرًا عندما علم بالهزيمة التي تعرض لها المسلمون في معركة بلاط الشهداء.
أقرأ أيضا معاوية بن أبي سفيان
تحديات وثورات في عهد هشام بن عبد الملك: الصراعات الداخلية والتحولات السياسية
تأثرت الدولة الأموية في عهد هشام بن عبد الملك بحركات وثورات عديدة. يعود ذلك جزئيًا إلى انشغال الولاة في حروب خارجية مع الدول المجاورة في عدة مناطق. وقد شهدت العديد من الثورات والحركات مثل حركة الخوارج وحركات البربر في شمال إفريقيا، حيث قام البربر بتمردات نتيجة سوء المعاملة من قبل الولاة. وتأثرت الأندلس أيضًا جراء المعارك مع البربر وثار سكان الأندلس نتيجة لذلك. بالإضافة إلى ذلك، ثار العلويون بعد فترة طويلة من السكون وعدم التنشط.
من بين الثورات التي حدثت في ذلك الوقت، ثورة الحارس بن سريج في عام 116 هجريًا، وقد نشبت بسبب الظروف السيئة في خراسان. كما ظهرت حركات قبطية في مصر في عام 107 هجريًا، بالإضافة إلى الدعوة العباسية التي اشتدت في ذلك الوقت. كان العباسيون يلتزمون بالهدوء ويتجنبون الصراعات على السلطة، ولكن مع تزايد الثورات، انتعشت الدعوة العباسية في خراسان، وكان زعيم الحركة بكير بن ماهان. وكانت معظم هذه الثورات تنتهي بالمعارك.
هشام : حكم عادل وتعامل حكيم
تميز هشام بن عبد الملك بقربه من الأذكياء وأصحاب الحكمة والعقل. كان يتشاور مع المستشارين ويقوم بتحضير الطعام لهم بنفسه، حتى في حالة وجود خصومة بينه وبين أحد أشراف رعيته، كان يواجه القضاء بنفسه. وقد علم أهل بيته بقيمة هذه الأمور، حتى لو كان خصمه من النصارى. ففي إحدى المرات، شتم الرجل أحد الأشراف، فقال له الرجل: “أما تستحي أن تشتمني وأنت خليفة الله في الأرض؟” فاستحى هشام وقال له: “اقتص مني”، فرد الرجل: “إذاً أنا سفيه مثلك”، فقال هشام: “فخذ عوضًا من المال”، فرد الرجل: “ما كنت لأفعل ذلك”، فقال هشام: “فهبها لله تعالى”، فقال الرجل: “هي لله ثم لك”، فنكس هشام رأسه واستحي وقال: “والله لا أعود إليها أبدًا”.
وكان هشام بن عبد الملك لا يستلم أي أموال في بيته إلا إذا كان هناك 40 رجلًا يشهدون على أنه استحقها. يعكس هذا تواضعه واهتمامه بالعدالة في التعامل المالي.
وفاة هشام : نهاية حكم الحكيم
في إحدى المرات، خرج هشام وعليه شحنة حزن وأسى، وعندما سألوه عن سبب حزنه، قال: “ما أنا لأكون وقد زعم أهل العلم بالنجوم أنني سأموت في ثلاثة أو ثلاثين يومًا من هذا اليوم”. وبالفعل، كانت تلك هي الليلة الثالثة والثلاثين، حيث ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وطلب دواءً لهشام بن عبد الملك لمشكلة صحية، وقد سبق أن أخذ الدواء وتحسن حالته منها.
وعندما أخذ الرسول الدواء لعلاج هشام وأعطاه له، لم يشعر الخليفة بتحسن، وتوفي في تلك الليلة. وكان نقش خاتمه يحمل عبارة “الحكم للحكيم”، مما يعكس حكمته وقراراته الموفقة.
وتوفي هشام بن عبد الملك في الرصافة يوم الأربعاء في ربيع الآخر من العام 125 هجريًا. وقد صلى عليه الوليد بن يزيد بن عبد الملك. استمرت حكم هشام بن عبد الملك لمدة 19 سنة وسبعة أشهر.
اهم المصادر :
- هشام بن عبد الملك والدولة الاموية للدكتور علي عبد الرحمن العمرو
- كتاب البداية والنهاية للحافظ بن كثير .