ملخص كتاب ممارسة الإدارة

هناك كتبٌ تمرّ بك مرور الكرام، وهناك كتبٌ تُحدث فيك تحوّلًا حقيقيًا… وكتاب “ممارسة الإدارة” (The Practice of Management) ينتمي دون شك إلى الفئة الثانية. منذ السطور الأولى، يأخذك بيتر إف. دراكر إلى عمق مفهوم الإدارة، لا كوظيفة مكتبية جامدة، بل كفنٍ يتعلّق بالناس، والنتائج، والتأثير العميق في بيئة العمل.
الكتاب لا يقدّم نصائح سطحية، ولا يُعيد تكرار ما قيل من قبل. بل يضعك أمام أسئلة حقيقية: لماذا تُوجَد المؤسسات؟ كيف تُدار بطريقة تُنتج قيمة؟ وما الفرق بين المدير الذي يُسيّر الأمور، وذلك الذي يصنع الفرق؟ يرى دراكر أن المؤسسة لا تقوم على المنتج، بل على العميل. والنجاح لا يُقاس بكثرة الإجراءات، بل بقدرتك على تحقيق نتائج ملموسة.
ومن بين أبرز مفاهيم الكتاب التي أحدثت نقلة نوعية في فهم الإدارة، ما عُرف لاحقًا بـ الإدارة بالأهداف. وهي فلسفة تُعلي من شأن الشفافية، وتحفّز كل فرد في المؤسسة ليصبح فاعلًا، لا مجرد منفذ. أنت لا تُدير الناس، بل تُمكّنهم. لا تراقب كل خطوة، بل تضع الهدف وتثق في قدرة الفريق على الوصول إليه.
وفي منتصف فصول الكتاب، يظهر طرحٌ جريء سبق عصره، حين تحدث المؤلف عن العامل المعرفي؛ هذا الموظف الذي لا يستخدم يديه فقط، بل عقله. الإنتاجية عنده لا تُقاس بالساعات، بل بالأفكار، والتحليل، والابتكار. وهو ما يجعل دور المدير اليوم أعمق بكثير من مجرّد إصدار التعليمات.
إن ممارسة الإدارة ليس مجرد كتاب نظري، بل ملف غنيّ بالأفكار التي يمكن تطبيقها في العالم الحقيقي، في كل قسم من أقسام المؤسسة، وفي كل قرار إداري، صغيرًا كان أو كبيرًا. هو مرجع لكل من أراد أن يفهم جوهر الإدارة لا كعلم تجاري فحسب، بل كفنّ يتعامل مع البشر، ويقودهم نحو نتائج تستحق.
والأثر الباقي من هذا العمل، أن القارئ لا يخرج منه كما دخل. فالمعرفة التي يُقدّمها دراكر لا تُملى، بل توقظ. توقظ فيك الرغبة بأن تُدير بشكل أفضل، أن تفهم أعمق، وأن تكون أنت نقطة التحول الحقيقية داخل مؤسستك.
جدول المحتويات
تعريف جديد لمفهوم الإدارة
ليس كل من شغل منصبًا إداريًّا يُعدّ مديرًا، وليست الإدارة مجرّد جداول وتقارير وأوامر تُنفّذ. هذا التصوّر النمطي يُفكّكه بيتر إف. دراكر في كتابه المعروف The Practice of Management أو ممارسة الإدارة ، حيث يُقدّم فهمًا مختلفًا تمامًا، يجعل من الإدارة جوهرًا حقيقيًا لكل مؤسسة، وليست فقط هيكلًا تنظيميًا يُعلّق على الجدران.
في طرحه، لا ينظر دراكر إلى الإدارة على أنها وظيفة تقليدية، بل مسؤولية استراتيجية تُبنى على القدرة في تحقيق نتائج من خلال الأفراد. المدير في هذه الرؤية لا يوجّه فقط، بل يُحرّك الموارد، يخلق بيئة تُشجع على الإنجاز، ويُحوّل الإمكانات الكامنة إلى أداء فعّال وملموس في كل قسم داخل المؤسسة.
لعلّ أبرز ما يطرحه الكتاب هو التحوّل من فكرة “المراقبة” إلى فكرة “التمكين”. حين يبدأ المدير من هدف واضح، يُشرك فيه فريقه، ويمنحهم الأدوات والحرية والمسؤولية، تتحوّل المؤسسة إلى كيان نابض بالإنتاج. هذا الفهم ليس تنظيرًا، بل واقع يمكن ملاحظته في أمثلة حيّة: مؤسسات نجحت لا لأنها أنفقت كثيرًا، بل لأنها أعادت تعريف الإدارة من كونها رقابة إلى كونها حافزًا.
تصوّر موقفًا واقعيًا:
مصنع صغير يواجه أزمة تراجع في جودة المنتج. بدلًا من أن يُشدّد المدير على اللوائح، اتجه إلى إجراء لقاءات دورية مع فرق العمل، وطلب منهم أن يصفوا المشكلة من منظورهم. ما ظهر بعد تلك النقاشات لم يكن موجودًا في أي تقرير رسمي: نقص في المواد الخام البديلة، ومعدّات بحاجة إلى صيانة دقيقة. لم تكن المشكلة في العاملين، بل في غياب قنوات تواصل فعالة. وحين أُصلحت هذه الفجوة، ارتفعت جودة المنتج، دون أن تُرفع التكلفة. هذا هو جوهر ما أراد المؤلف إيصاله: أن المدير الناجح لا ينتظر البيانات من أعلى، بل يستمع، ,و يحلل، ويتصرّف بوعي.
ومن المسائل الجوهرية التي يناقشها الكتاب، أن الإدارة ليست مرتبطة بحجم المؤسسة أو عدد موظفيها، بل بطريقة التفكير الإداري ذاتها. فقد تفشل شركة ضخمة رغم كل الموارد، وتنجح ورشة صغيرة لأنها أدارت جيدًا ما تملك. المسألة هنا ليست في الكَمّ، بل في النوع، في النوع الذي يختاره المدير لتعامله مع التحديات، وفي القدرة على تحويل كل موظف إلى جزء فعلي من الرؤية الكبرى.
المفاهيم التي يطرحها بيتر دراكر تتجاوز التنظير، وتدخل في تفاصيل دقيقة تمسّ الواقع اليومي لكل من يعمل في المجال الإداري. لأن الإدارة الفعالة ليست مجرّد أداة تشغيل، بل عقل المؤسسة وروحها، وعمودها الفقري في السوق التجارية وفي أي نشاط منظّم.
إن هذا التصوّر الحديث يجعل من ممارسة الإدارة فعلًا حقيقيًا، لا مجرّد صفة وظيفية. وهو ما يجعل من المدير عنصرًا محوريًّا لا يُقاس بحجم صلاحياته، بل بقدرته على إخراج أفضل ما في فريقه، وعلى تحويل التوجيه إلى طاقة، والمعلومة إلى قرار، والمشكلة إلى فرصة.
الهدف من المؤسسة
ما الفائدة من مؤسسة تُنتج منتجات ممتازة، وتُوظّف محترفين، وتُنفّذ عمليات دقيقة، لكنها في النهاية لا يعرفها أحد؟ أو يعرفها الناس لكن لا يحتاجون إليها؟ هذه النقطة الجوهرية هي ما بدأ منها بيتر دراكر في كتابه الشهير The Practice of Management أو ما يُعرف عربيًا بـ ممارسة الإدارة. إذ يطرح المؤلف فكرة مُزعزعة لكل المسلّمات القديمة:
المؤسسة لا يُقاس نجاحها بما تُنتجه، بل بما تخلقه من عملاء.
حين نُعيد النظر في هذه الفكرة نجد أن السوق لا يرحم المؤسسات التي تُنتج لمجرد الإنتاج. هنالك شركات ضخمة استثمرت الملايين في تطوير خدمات لا يرغب بها أحد، لأنها لم تبدأ من سؤال بسيط لكنه حاسم: “من هو العميل؟” و”ما الذي يحتاج إليه فعلًا؟”. هنا يظهر الفرق بين مؤسسة تفكر داخليًا، وأخرى تفكر من خلال عيون عملائها. الأولى تركّز على المنتج، والثانية تركّز على المشكلة التي يُعاني منها السوق.
في أحد الأمثلة الواقعية :
أطلقت شركة تقنية منتجًا جديدًا يُتيح إدارة الوقت للموظفين. كل شيء بدا مثاليًّا من حيث البرمجة، التصميم، التكلفة. ومع ذلك، لم يحقق المنتج أي اختراق في السوق. عند التحقيق، تبين أن الشركات المستهدفة كانت تُعاني من مشكلة مختلفة تمامًا: ضعف تواصل الفرق البعيدة جغرافيًا، وليس إدارة الوقت. هنا تكون المؤسسة قد اشتغلت بكل جهدها، ولكن على سؤال خاطئ. ووفقًا لما طُرح في الكتاب، فإن أول خطوة صحيحة تبدأ من تحديد القيمة التي تبحث عنها السوق، لا ما نريد نحن تقديمه.
يُشدّد دراكر على أن أي مؤسسة تجارية أو غير ربحية، لا تنشأ لكي “تبيع”، بل لكي “تخلق” حاجة تُلبّيها. هذا الفهم يُغيّر طريقة التفكير الإداري جذريًّا. بدلًا من أن تُدار المؤسسة حول المنتج، تُدار حول العميل. وهذا يتطلّب جمع معلومات، بناء رؤى، ومراقبة دائمة لتغيّر رغبات المستخدمين.
كيف تكتسب العملاء في خمس خطوات ؟
وللوصول إلى هذا الهدف – خلق عميل – هناك عدة خطوات عملية يُمكن استخلاصها من هذا المنهج:
- دراسة الفئة المستهدفة: من هو العميل؟ ماذا يريد؟ ما المشاكل اليومية التي يواجهها؟
- تحليل السوق بدقّة: لا تكتفِ بتقارير عامة. اسأل مباشرة، واختبر أفكارك ميدانيًا.
- ربط المنتج بالقيمة الفعلية: لا تُقدّم منتجًا لأنه متطور تقنيًا فقط، بل لأنه يحل مشكلة بوضوح.
- تطوير مستمر بناءً على التغذية الراجعة: العميل لا يطلب الكمال، بل أن يشعر أن صوته مسموع.
- إعادة تقييم دور المؤسسة كل فترة: هل ما زلنا نلبي الحاجة نفسها؟ أم تغيّر السوق وعلينا أن نتغير معه؟
المدير الذي يتبنى هذا الفهم لا يعود منشغلًا بمؤشرات شكلية، بل يبدأ في بناء المؤسسة حول نقطة الارتكاز الحقيقية: العميل. ويقيس نجاح المؤسسة بمدى قدرتها على التأثير في حياته، وإقناعه بأن ما تقدمه يستحق المال والثقة.
هذا التحول الفكري يجعل من الإدارة أكثر من وظيفة تنسيقية، بل رؤية تستند إلى علاقة حقيقية بين المؤسسة والناس. وبهذا المعنى، لم يعد المدير مسؤولًا عن الإنتاج فقط، بل عن خلق المعنى في أعين العميل. وبهذا، تصبح ممارسة الإدارة فعلًا متجدّدًا، يربط بين السوق والفريق، بين الفكرة والاحتياج، وبين ما تفعله الشركة اليوم، وما ينتظره الناس منها غدًا.
الإدارة بالأهداف (Management by Objectives)
إذا كانت الفوضى تُفسد كل شيء، فإن غياب الهدف الواضح يُطفئ الروح داخل أي فريق عمل. في المؤسسات التي لا تعرف إلى أين تتجه، لا فرق بين الموظف المجتهد والموظف العابر. وهذا ما يُشكّل جوهر أحد أهم المفاهيم التي طوّرها بيتر إف. دراكر في كتابه The Practice of Management، أو ما عُرف في ترجمته العربية بعنوان ممارسة الإدارة. إذ يُسلّط الضوء على مفهوم الإدارة بالأهداف، باعتبارها طريقة واقعية لإنشاء منظومة عمل لا تدور حول المدير، بل حول النتائج.
ما هو مفهوم الإدارة بالأهداف ؟
الفكرة ليست معقدة، لكنها ثورية في بساطتها. المدير لا يُفترض به أن يُراقب كل خطوة، بل أن يحدّد نتائج واضحة، ويمنح الفريق الحرية الكافية لاختيار الطريقة التي يصلون بها إلى الهدف. الموظف في هذه الحالة لا يُنفّذ فقط، بل يُفكّر، يُبدع، ويشعر أن له يدًا حقيقية في الإنجاز. وهنا تتحول الإدارة من حالة رقابية جامدة إلى عملية ديناميكية تُحرّك الفريق نحو غاية مُحددة.
فلنأخذ مثالًا من الواقع:
شركة تسويق رقمي كانت تعاني من تأخر في تسليم الحملات الإعلانية، رغم أن الفريق كان يعمل ساعات طويلة. بدلًا من زيادة الضغط، قرر المدير تقسيم العمل إلى أهداف أسبوعية واضحة لكل عضو: تصميم عدد معين من الإعلانات، تحسين معدل النقرات بنسبة محددة، ورفع تفاعل الجمهور على منصات التواصل. لم يعُد الفريق بحاجة إلى انتظار تعليمات يومية، بل صار كل فرد يعرف المطلوب منه، ويملك الحرية في الطريقة التي يختارها لتحقيق ذلك. خلال شهر واحد، ارتفعت معدلات الإنجاز بنسبة 45٪، وانخفض التوتر الداخلي داخل أقسام الشركة المختلفة.
هذا الأسلوب في ممارسة الإدارة لا يُركّز على الخطوات، بل على النتائج. وهنا يكمن التغيير الجوهري. فبدلًا من أن تضيع الجهود في مهام روتينية لا ترتبط بهدف واضح، يُصبح كل جهد موجهًا نحو نتيجة قابلة للقياس. وهذا ما يجعل الفرق بين فريق يتحرك لأن “المدير قال”، وفريق يتحرك لأنه يعرف “إلى أين يجب أن يصل”.
ما هي خطوات الإدارة بالأهداف ؟
وتعتمد الإدارة بالأهداف على ثلاث خطوات رئيسية:
- تحديد النتائج بوضوح: لا تكفي العبارات العامة مثل “تحسين الأداء” أو “زيادة المبيعات”. يجب تحديد الهدف برقم، نسبة، أو نتيجة يمكن التحقق منها.
- الاتفاق المشترك على الأهداف: لا تُفرض الأهداف من الأعلى، بل تُناقش ويُتفق عليها بين المدير والفريق. وهذا يعزز الالتزام ويزيد من مستوى المشاركة.
- المتابعة دون تدخل مفرط: المدير يراقب التقدّم بشكل دوري، ولكن لا يتدخّل في تفاصيل التنفيذ إلا عند الضرورة. هنا يظهر الفارق بين من يقوم بالدور القيادي فعلاً، وبين من يكتفي بإصدار التعليمات.
أهمية هذا النهج لا تقتصر على المؤسسات التجارية فقط، بل يمكن تطبيقه في المدارس، المنظمات غير الربحية، والمبادرات المجتمعية. لأن ما يحتاجه أي كيان ناجح هو وضوح الرؤية، وليس ضخامة الموارد.
اللافت أيضًا أن هذا المفهوم لا يعتمد على التقنيات أو البرامج، بل على نوع التفكير الإداري الذي يتبنّاه القائد. وقد أظهر التطبيق العملي له أن إنتاجية الفرق لا تزداد بالمتابعة الدقيقة فقط، بل بتحديد نتائج يشعر بها الفريق ويستطيع قياسها. وهذا ما يجعل الإدارة بالأهداف من أكثر المفاهيم إقناعًا واستمرارية، لأنها تربط الأداء بمعنى.
وفي ضوء ما يُقدّمه الكتاب، يظهر جليًا أن المؤسسات التي تطبّق هذا النهج لا تحتاج إلى أن تُدير كل تفصيلة صغيرة، بل أن تُدير الرؤية الكلية. ولهذا، فإن اعتماد هذه الطريقة ليس رفاهية، بل هو الأساس لكل مؤسسة تسعى للتميّز والاستقرار في الوقت ذاته.
ما هو دور المدير في المؤسسة
في كثير من المؤسسات، يُعامل المدير كأعلى سلطة تنفيذية في تسلسل العمل، وكأن مهمته تنتهي عند التوقيع على القرارات أو الإشراف على سير المهام. لكن الصورة التي يقدّمها بيتر إف. دراكر في The Practice of Management أو ممارسة الإدارة، تُظهر الحقيقة من زاوية مغايرة تمامًا. المدير الحقيقي، بحسب ما جاء في هذا الكتاب، ليس موظفًا إداريًّا أعلى فحسب، بل هو نقطة الارتكاز التي تدور حولها كل عناصر الأداء والتطوير داخل المؤسسة.
المدير لا يُقاس بعدد القرارات التي يتخذها، بل بالنتائج التي يُسهم في تحقيقها من خلال الآخرين. وهذا الفهم يُغيّر تمامًا من طبيعة الدور الإداري التقليدي. في رؤيته، يُوضح دراكر أن المدير لا ينجح بمراقبة الأداء، بل بقدرته على تحفيز الفريق، توجيهه، وصقل مهاراته، خاصة داخل كل قسم يحتاج إلى قيادة واضحة ومنظمة.
خذ مثلًا مديرًا في شركة تطوير عقاري، لاحظ أن أداء قسم خدمة العملاء في تراجع مستمر، رغم استقرار جميع مؤشرات التشغيل. بدلًا من الاكتفاء بملاحظات سطحية، جلس مع أعضاء الفريق بشكل فردي، وبدأ بفهم ما يدور داخل كل عقل. تبين أن هناك تعارضًا في المهام اليومية وعدم وضوح في الأولويات. قرر المدير إعادة توزيع المسؤوليات، ووضع آلية متابعة مرنة، وتقديم تدريبات قصيرة على مهارات التواصل. خلال 60 يومًا، ارتفعت معدلات رضا العملاء بنسبة 35%، وانخفضت الشكاوى بمعدل ملحوظ. ما فعله هذا المدير لا علاقة له بالإشراف الإداري فقط، بل بقيادة حقيقية تحوّل المعرفة إلى نتائج.
ممارسة الإدارة في هذا السياق ليست مجرد توزيع للمهام، بل عمل يتطلّب ثلاث مهام أساسية من المدير:
- الرؤية والتوجيه: لا بد من وجود هدف واضح يقود به الفريق. المدير الذي لا يضع رؤية، يجعل فريقه يدور في حلقة مفرغة.
- تحفيز الأفراد وبناء الانتماء: المال وحده لا يكفي لتحفيز أي موظف. حين يشعر الفرد بأن له دورًا حقيقيًا في النجاح، تتغيّر طريقة أدائه.
- التطوير المستمر: لا يتوقف دور المدير عند تشغيل النظام، بل يتعداه إلى تطوير القدرات، سواء من خلال تدريب داخلي، أو بفتح مساحات للتعلّم الذاتي.
ويُشير الكتاب بوضوح إلى أن المدير الناجح ليس هو من يقوم بكل شيء بنفسه، بل من يخلق نظامًا يعمل بكفاءة حتى في غيابه. هذا النوع من التفكير يُخرج المؤسسة من دوامة “الاعتماد على الأشخاص” إلى منظومة تعتمد على المهام، الأدوار، والنتائج.
وتكمن نقطة القوة هنا في أن هذا النموذج يصلح للمؤسسات التجارية وغير التجارية على حدٍّ سواء، إذ إن الحاجة إلى مدير فعّال لا تتغيّر بتغيّر القطاع. المهم دائمًا هو: كيف نُدير الأفراد؟ كيف نُحوّل الموارد إلى طاقة حقيقية؟ وكيف نُحافظ على مستوى عالٍ من التركيز، داخل مؤسسة تُطالب فريقها كل يوم بالمزيد؟
ليس المطلوب من المدير أن يعرف كل شيء، ولكن أن يعرف كيف يُدير من يعرف. أن يبني على نقاط القوة، ويخلق مساحة يتفاعل فيها الجميع مع الرؤية الكبرى للمؤسسة. وهذا هو جوهر ما يُحاول الكتاب أن يرسّخه في كل فقرة: أن المدير ليس مركز السلطة، بل محفّز للقدرة، وصانع للتغيير، ومُهيّئ للمستقبل.
التحوّل نحو العامل المعرفي
في عالم يتغيّر بسرعة، لا يعود الاعتماد على القوة البدنية أو تكرار المهام كافيًا لدفع المؤسسات نحو النجاح. هذا التحوّل العميق في طبيعة العمل هو ما سلط عليه بيتر إف. دراكر الضوء في The Practice of Management، أو ما عُرف بترجمته العربية ممارسة الإدارة. إذ خصّص المؤلف مساحة مهمة للحديث عن ما يُعرف بـ “العامل المعرفي” (Knowledge Worker)، وهو المصطلح الذي لم يكن شائعًا وقت كتابة الكتاب، لكنه صار اليوم محور كل نقاش جاد حول مستقبل بيئات العمل والإنتاج.
العامل المعرفي هو ذلك الموظف الذي لا يقتصر دوره على تنفيذ التعليمات، بل على التفكير والتحليل والابتكار. هو من يُضيف قيمة فكرية للمنظمة، سواء من خلال حل المشكلات، أو تطوير العمليات، أو قراءة الاتجاهات وتحويلها إلى استراتيجيات. هذا التحوّل من الاعتماد على اليد إلى الاعتماد على العقل، غيّر شكل المؤسسات بالكامل، وفرض على الإدارة أن تُعيد ترتيب أولوياتها.
لنأخذ مثالًا بسيطًا من إحدى شركات الخدمات التقنية.
كانت الشركة تعتمد على طاقم دعم فني تقليدي، يتعامل مع الاستفسارات اليومية وفق نماذج جاهزة. مع توسّع العملاء، ظهرت مشكلات معقّدة لم تكن تُحل بتكرار الردود. هنا، لم يكن الحل في زيادة عدد الموظفين، بل في توظيف من يمتلك مهارات تحليلية وفكرية، قادر على فهم السياق، والتعامل مع كل حالة بشكل مستقل. هؤلاء هم العاملون المعرفيون. لم تكن إنتاجيتهم تُقاس بعدد التذاكر المغلقة، بل بعدد المشكلات التي تم حلها بشكل جذري، مما خفّض التكرار ورفع الرضا العام.
في هذا السياق، يُبيّن الكتاب بوضوح أن المدير الذي يُدير فريقًا من العاملين المعرفيين لا يمكنه اتباع الأساليب القديمة في المتابعة والسيطرة. فهؤلاء لا ينتظرون أوامر، بل يحتاجون إلى بيئة مرنة تسمح لهم بالتفكير بحرّية، ومساحة للمبادرة، ومناخ يُقدّر مساهماتهم الفكرية. وهذا يُغيّر قواعد اللعبة بالكامل، سواء في القسم الفني، أو الإبداعي، أو حتى الإداري.
ولإدارة هذا النوع من العاملين بفعالية، يجب على المدير أن يُعيد ضبط أدواته، عبر الخطوات الآتية:
- بناء الثقة بدلًا من الرقابة: لا تنجح الإدارة الصارمة مع العامل المعرفي. يحتاج إلى بيئة يشعر فيها بأن أفكاره مسموعة.
- ربط العمل بهدف واضح: العامل الذكي يحتاج إلى أن يرى قيمة ما يقوم به. لا يرضيه التنفيذ الأعمى.
- الاستثمار في التطوير المستمر: لأن الإنتاج الفكري لا يتجدد تلقائيًّا، بل يحتاج إلى تغذية معرفية وتدريب دائم.
- قياس الأداء بمعايير نوعية: يجب التركيز على النتائج بعيدة المدى، لا مجرد الأرقام السريعة.
- تشجيع الحوار وليس الأوامر: لا بد من تحويل الإدارة إلى مساحة نقاش، فيها يُسمح بالاختلاف والتجريب.
هذا النموذج من ممارسة الإدارة يتطلب من المدير نفسه أن يكون مرنًا، متجدد الفكر، ومتقبلًا للتغيير. فالعامل المعرفي لن ينخرط في مؤسسة لا تُدرك قيمته، ولن يبقى في مكان يُختصر فيه دوره في المهام التقليدية. وهذا ما يجعل فهم التحوّل نحو هذا النوع من القوى العاملة شرطًا أساسيًا لأي مؤسسة تجارية أو مهنية تطمح للاستمرار في السوق.
إن طرح بيتر دراكر هنا لا يتعلّق فقط بتسمية جديدة لفئة من الموظفين، بل بتغيير عميق في فهمنا لمعنى العمل، ولطبيعة العلاقة بين المدير والفريق. والمؤسسات التي تفهم هذا التغيير، وتُعيد بناء ثقافتها التنظيمية وفقًا له، هي المؤسسات التي تستطيع البقاء والتوسّع في بيئة تعتمد فيها الإنتاجية على العقل أكثر من اليد، وعلى التفكير أكثر من التكرار.
اتخاذ القرار: من التقدير الشخصي إلى التفكير المنهجي
كم من مؤسسة تعثّرت فقط لأنها اتخذت قرارًا في الوقت الخطأ، أو اعتمدت على شعور داخلي بدلًا من قراءة الواقع؟ هذه واحدة من القضايا الجوهرية التي يناقشها بيتر إف. دراكر في كتابه The Practice of Management أو ما يُعرف بترجمته العربية ممارسة الإدارة، حيث يركّز بشكل واضح على خطورة القرارات المبنية على التقدير الشخصي، والتي تُتخذ دون بيانات واضحة أو تحليل موضوعي.
المشكلة ليست دائمًا في القرار نفسه، بل في الأساس الذي بُني عليه. كثير من المدراء، كما يشير الكتاب، يتخذون قرارات يومية دون الرجوع إلى مؤشرات دقيقة، ويعتمدون على الانطباع العام، أو ما يبدو منطقيًا في اللحظة، وهو ما يؤدي غالبًا إلى نتائج عكسية أو غير مكتملة.
لكي يكون القرار الإداري فعّالًا، يقترح دراكر خطوات عملية يجب أن تمر بها كل مؤسسة قبل أن تنفّذ أي توجّه جديد:
- تحديد المشكلة بدقة: لا يمكن إصلاح شيء غير واضح. الفهم الغامض يُنتج قرارًا غامضًا.
- جمع معلومات واقعية: المدير لا يحتاج فقط إلى رأي، بل إلى أرقام، بيانات، وملاحظات مباشرة من الميدان.
- تحليل جميع الخيارات الممكنة: القرار ليس اختيارًا بين اثنين، بل هو بحث مفتوح عن الحل الأنسب من بين احتمالات متعددة.
- تنفيذ القرار بثقة لكن بمرونة: أي قرار، مهما بدا متماسكًا، يجب أن يُرافقه استعداد للتعديل إذا ظهرت مستجدات غير متوقعة.
- مراجعة النتائج والتعلّم منها: اتخاذ القرار لا ينتهي عند التنفيذ، بل يستمر بالتقييم والتطوير المستمر.
ولنأخذ مثالًا من تجربة شركة متخصصة في تجارة المواد الغذائية، لاحظت انخفاضًا في الأرباح رغم أن المبيعات لم تتراجع. وبدلًا من إجراء تغييرات متسرّعة، قررت الإدارة تحليل كل نقطة في سلسلة التوريد والتوزيع. وُجد أن جزءًا كبيرًا من الخسائر يأتي من تلف المنتجات بسبب ضعف نظام التبريد في بعض الفروع. كان القرار السليم في هذه الحالة هو استثمار محدود في معدات التبريد بدلًا من تقليص عدد الموظفين كما اقترح البعض في البداية. النتيجة؟ انخفاض في الفاقد بنسبة 40٪ خلال أول شهر، وزيادة واضحة في ثقة العملاء.
هذا المثال يعكس تمامًا ما أراد الكتاب أن يُثبته: أن المدير الذي يقوم بقراراته على أساس علمي، لا فقط على ما “يبدو” صحيحًا، يُحقق نتائج حقيقية، ويقود فريقه بثبات في الاتجاه الصحيح.
كما يُبرز دراكر في سياق تحليله أن القرارات لا ينبغي أن تُصبح مرهونة للبيروقراطية التي تُبطئ التنفيذ، ولا أن تُؤخذ كرد فعل سريع دون تفكير. بل لا بد من إيجاد توازن بين السرعة والحكمة، بين الفعل والتأمل. والمؤسسة التي تنجح في ذلك، هي التي تستطيع البقاء في بيئة تنافسية لا ترحم.
ولأن هذا المفهوم لا يرتبط فقط بالشركات الكبرى، بل يُطبق في المؤسسات التجارية الصغيرة، وفي كل قسم يتطلب تخطيطًا وقيادة، فإن القدرة على اتخاذ قرار سليم هي مهارة يجب أن تُنمّى، لا مجرد موقف يُؤخذ وينتهي.
ومن هنا، فإن ممارسة الإدارة في نظر بيتر دراكر ليست إدارة ملفات ومهام فحسب، بل إدارة مواقف، ورسم اختيارات، وبناء ثقة بين القائد والفريق، تقوم على وضوح الرؤية، وقوة الفهم، وسلامة القرار.
التنظيم الداخلي للمؤسسة: عندما يصبح الهيكل مرآة للأداء
هل سبق أن شعرت أن الفريق يعمل، والنتائج لا تتحقق؟ أن الجميع مشغول، لكن لا أحد يعلم من المسؤول عن ماذا؟ هذا هو أثر الهيكل التنظيمي حين يُبنى بطريقة غير مناسبة. في The Practice of Management، أو ممارسة الإدارة، يركّز بيتر إف. دراكر على قضية يعتبرها من الركائز الأساسية لأي مؤسسة ناجحة: كيف يتم تنظيم المؤسسة من الداخل؟ لا كمجرد هيكل على الورق، بل كنظام ينبض بالحياة، يعكس الأدوار، ويُسهّل حركة العمل.
المشكلة في كثير من المؤسسات ليست في الاستراتيجية، بل في طريقة تنظيم الأقسام والمسؤوليات. حين تكون الصلاحيات متداخلة، والمسؤوليات مبهمة، يبدأ الصراع الداخلي، وتضيع القرارات في زحام البيروقراطية. وهنا تحديدًا يظهر دور المدير الذي يُدرك أن التنظيم ليس رفاهية، بل ضرورة للبقاء.
في هذا السياق، يوضّح الكتاب أن كل مؤسسة يجب أن تحدّد نوع الهيكل التنظيمي الذي يتناسب مع طبيعة عملها. وليس هناك شكل واحد مثالي، بل هناك هيكل يناسب كل بيئة:
- الهيكل الوظيفي: حيث تُقسم المؤسسة حسب التخصص (مبيعات، تسويق، موارد بشرية…). مناسب للمؤسسات ذات الأنشطة المستقرة والواضحة.
- الهيكل القائم على المشروعات: يُعتمد عندما تتغيّر طبيعة المهام بشكل مستمر، ويكون هناك أكثر من مشروع نشط في وقت واحد.
- الهيكل الجغرافي: ضروري للمؤسسات التي تعمل في أكثر من منطقة أو دولة، بحيث يُخصّص لكل منطقة إدارة مستقلة.
- الهيكل المختلط: يجمع بين أكثر من نمط حسب الحاجة، وهو شائع في الشركات الكبرى والمتوسعة.
أحد الأمثلة التي تُظهر أثر الهيكل التنظيمي، حالة شركة لوجستية توسّعت بسرعة في أكثر من مدينة. خلال عام واحد، زادت شكاوى العملاء، وتراجعت دقة التسليم. بعد تحليل داخلي، تبين أن السبب لم يكن في جودة الخدمات، بل في عدم وضوح الصلاحيات بين الفروع. فكل فرع كان يظن أن القرار بيد المقر الرئيسي، بينما الإدارة العامة تركت التفاصيل للمديرين المحليين دون تنسيق. الحل لم يكن في تغيير السياسات، بل في إعادة بناء الهيكل التنظيمي ليُراعي الفروق الجغرافية، ويوضّح خطوط اتخاذ القرار بدقة.
ومن خلال ما يقدّمه بيتر دراكر في هذا الجانب، يتضح أن الهيكل الفعّال لا يكون معقّدًا، بل واضحًا. ومن صفاته:
- أن يُعرّف كل دور داخل المؤسسة دون تداخل.
- أن يُتيح تدفق المعلومات بسهولة بين الأقسام المختلفة.
- أن يُمكّن المديرين من اتخاذ القرار دون الرجوع الدائم للمستويات العليا.
- أن يكون مرنًا وقابلًا للتعديل عند الحاجة، دون أن يُفكك البنية.
ولأن الإدارة ليست مجرد ممارسة نظرية، فإن إعادة تصميم الهيكل التنظيمي يجب أن تبدأ من واقع العمل لا من قوالب جاهزة. فالمؤسسة التي تعمل في بيئة تجارية تنافسية لا يمكن أن تُدار كما تُدار جهة حكومية، والعكس صحيح.
ولعلّ من أخطر الأخطاء أن يُبنى الهيكل على الأسماء لا على الأدوار. أي أن يتم التفصيل على الأشخاص الموجودين، لا على ما يحتاجه العمل فعلًا. وهذا يؤدي إلى خلق وظائف شكلية، ومهام غير مترابطة، تُفقد المؤسسة تركيزها، وتُشتّت مواردها.
ما يدعو إليه الكتاب بوضوح هو أن التنظيم لا يقل أهمية عن الرؤية. فالرؤية تحتاج إلى أدوات تنفيذ، وهذه الأدوات تبدأ بهيكل سليم. ليس من أجل الظهور، بل من أجل الانسيابية، وتحقيق النتائج، والتأكّد أن كل فرد في الفريق يعرف موقعه، وحدوده، ومسؤوليته.
لهذا، فإن ممارسة الإدارة وفق هذا المنظور لا تنجح إلا عندما يُبنى الهيكل الإداري كجسر حقيقي بين الأهداف والنتائج، لا كحائط يفصل بين الناس والقرارات.
قياس الأداء والتقييم: حين لا تكفي الأرقام وحدها لتكشف الحقيقة
من السهل أن يُعرض تقرير شهري مليء بالأرقام، ومن السهل كذلك أن يبدو كل شيء في المؤسسة على ما يُرام بمجرد أن تُظهر الجداول ارتفاعًا في المؤشرات، لكن هل هذه الأرقام تعني فعلًا أن الأداء جيد؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه بيتر إف. دراكر في كتابه The Practice of Management أو ممارسة الإدارة، حين يناقش بشكل عميق مسألة قياس الأداء والتقييم داخل المؤسسات، مؤكدًا أن النجاح لا يُقاس بالشكل، بل بالجوهر.
المؤلف لا يرفض الأرقام، بل يُحذّر من الاعتماد المفرط عليها دون فهم السياق الحقيقي خلفها. قد تُظهر النسب المالية أرباحًا، لكن هل هذه الأرباح ناتجة عن تحسين حقيقي في العمليات؟ أم عن تقليص عشوائي للتكاليف أضعف جودة المنتج؟ هل ارتفاع الإنتاجية ناتج عن كفاءة؟ أم عن ضغط مفرط على فرق العمل؟ هذه الأسئلة وغيرها، بحسب ما جاء في الكتاب، يجب أن تكون جزءًا من عملية التقييم، وإلا فإن المؤسسة قد تنخدع ببيانات تبدو إيجابية، لكنها لا تعبّر عن الواقع بدقة.
يُركّز دراكر على أن قياس الأداء الفعّال لا ينفصل عن أهداف المؤسسة، بل يرتبط بها مباشرة. ولكي يتحقق ذلك، يضع عددًا من المبادئ والخطوات العملية التي تُمكّن المدير من تقييم الأداء بشكل موضوعي وعميق:
- ربط التقييم بالأهداف: لا يمكن قياس الأداء في الفراغ. لا بد من تحديد ما الهدف المراد الوصول إليه، ثم قياس التقدّم نحوه.
- التمييز بين النتائج والأنشطة: قد يكون الموظف نشطًا، يُنجز مهامًا كثيرة، لكنه لا يحقق نتائج حقيقية. التركيز يجب أن يكون على المخرجات، لا على الحضور أو عدد الاجتماعات.
- تحليل الأسباب لا الأرقام فقط: إذا انخفضت نسبة المبيعات، فالسؤال ليس فقط “كم؟” بل “لماذا؟”. ما المتغيّرات التي حدثت؟ هل هناك خلل في القسم المعني؟ هل السوق تغير؟
- الاستماع للبيانات غير الرسمية: الانطباعات التي تُنقل من العملاء، أو مشاعر فرق العمل، تُعد مؤشرات حيوية لا تظهر في التقارير التقليدية، لكنها تعكس اتجاهات حقيقية.
- استخدام أدوات تقييم متنوعة: من المهم المزج بين المؤشرات الكمية (أرقام، نسب) والنوعية (آراء، تجارب، سلوك العملاء).
في إحدى الشركات الناشئة، كانت الإدارة تعتمد على لوحة مؤشرات تُظهر عدد العملاء الجدد، وعدد العمليات المنجزة يوميًا. بدا كل شيء مثاليًا على الورق. لكن التقييم النوعي كشف أن نسبة كبيرة من العملاء لا يُكملون استخدام الخدمة بعد الأسبوع الأول. ومع مرور الوقت، بدأت العوائد في التراجع رغم الاستقرار الظاهري في الأرقام. السبب؟ التركيز المفرط على الكمّ، وإغفال جودة تجربة العميل. وبعد إعادة هيكلة أسلوب التقييم، أُضيفت مؤشرات لقياس رضا العملاء، وسهولة الاستخدام، مما قاد إلى تغييرات جذرية في المنتج نفسه، وتحسن فعلي في ولاء العملاء.
هذا المثال يُظهر تمامًا ما أشار إليه الكتاب: أن الإدارة لا تنجح حين تتبع الأرقام، بل حين تفهمها في سياقها، وتُترجمها إلى قرارات حقيقية تُحسّن العمل من الداخل.
ويُذكّرنا بيتر دراكر في هذا السياق أن المدير لا يُفترض به أن يُراكم التقارير، بل أن يقوم بفهم ما بين السطور، وأن يُحوّل عملية التقييم إلى أداة تطوير، لا إلى مجرد إجراء روتيني يُنفّذ في نهاية كل شهر.
ولأن هذا المفهوم يطال جميع المؤسسات، من الصغيرة إلى الكبرى، ومن المجالات التجارية إلى القطاعات العامة، فإن التفكير في نوع المؤشرات التي نعتمدها، ومدى ارتباطها بهدف المؤسسة، هو ما يُحدث الفرق الحقيقي بين إدارة تعرف أين تقف، وأخرى تكتفي بالمتابعة من بعيد.
أهمية التطوير المستمر: إمّا أن تتغيّر، أو تختفي
المؤسسة التي تتعامل مع النجاح وكأنه حالة ثابتة، لا تدرك أن السوق لا يرحم من يتوقف. لا يهم إن كنت شركة كبرى أو مشروعًا ناشئًا، الاستمرارية لا تأتي من الاستقرار، بل من التغيير المستمر. هذه القاعدة أساسية في كتاب The Practice of Management أو ممارسة الإدارة، حيث يُشدّد بيتر إف. دراكر على أن المؤسسة التي لا تُراجع نفسها، ولا تُعيد التفكير في طريقتها، تجد نفسها عاجلًا أو آجلًا خارج المنافسة.
الفكرة الجوهرية ليست في التطوير لمجرد التحديث، بل في التطوير الذي ينبع من الفهم الحقيقي لتغيّرات السوق، وتبدّل احتياجات العملاء، وتحوّلات بيئة العمل. الكتاب لا يُنظّر فقط لفكرة التغيير، بل يُقدّمها كشرط للبقاء، سواء للمؤسسات التجارية أو غير الربحية.
خذ مثالًا واقعيًا لمؤسسة تعليمية ظلّت لسنوات تعتمد على نموذج تقليدي في تقديم الدورات التدريبية. في البداية، كانت تحقق نجاحًا ملحوظًا. لكن مع تحوّل أنماط التعلّم إلى منصات رقمية مرنة، بدأت الأرقام في الانخفاض تدريجيًّا. الإدارة لم تنتبه إلا بعد أن تراجع الإقبال بنسبة 50% خلال عامين. كان التحدي الحقيقي ليس في جودة المحتوى، بل في عدم التجاوب مع متغيرات السوق. وبعد دراسة دقيقة، قرر الفريق تطوير المنهج بالكامل، واعتماد نموذج تعليمي رقمي مرن، وتوسيع نطاق التفاعل بين المحاضر والمتدرّب. وفي أقل من ستة أشهر، استعادت المؤسسة نشاطها وحققت نموًا ثابتًا.
هذا المثال يلخّص ما يُؤكّد عليه دراكر: أن التطوير ليس خيارًا تجميليًّا، بل ضرورة تشغيلية. والمؤسسات الذكية هي التي تبادر قبل أن تُجبرها الظروف على التحرك. لأن ما كان مجديًا بالأمس، قد يصبح غير كافٍ اليوم، وغير مقبول غدًا.
ويُوضّح الكتاب أن التطوير المستمر لا يعني إعادة اختراع المؤسسة كل شهر، بل أن يكون هناك وعي دائم بالحاجة إلى التحسين، عبر خطوات واقعية، منها:
- مراجعة دورية للأهداف: هل لا تزال أهداف المؤسسة مرتبطة بسوقها الحالي؟ هل تغيرت أولويات العميل؟
- تحليل دوري للأداء الداخلي: ليس فقط من خلال الأرقام، بل عبر ملاحظات الفريق، ونقاط الضعف في سير العمل.
- تشجيع التجريب المدروس: فرق العمل بحاجة إلى حرية المحاولة دون خوف من الفشل، لأن الفشل المدروس هو بذرة التقدّم.
- متابعة المنافسين لا لتقليدهم، بل لتجاوزهم: مراقبة السوق ليست من باب الغيرة، بل من باب الرؤية الاستباقية.
- دمج التطوير ضمن الثقافة الداخلية: التطوير لا يكون مبادرة مؤقتة، بل عقلية تسري في كل قسم، من الإدارة العليا إلى فرق التنفيذ.
ومن المسائل التي يُركّز عليها الكتاب أيضًا أن المدير الفعّال هو من يقوم بدور المحرّك لهذا التغيير، لا من ينتظره. هو من يدرك أن كل نظام مهما كان ناجحًا، يحمل في داخله بذور التخلّف إذا لم يُراجع، ويُختبر، ويُطوّر.
وفي زمن تتسارع فيه الابتكارات، ويزداد فيه وعي العملاء، ويُعاد تعريف المنافسة كل يوم، فإن التطوير المستمر لم يعد رفاهية، بل هو خط الدفاع الأول عن بقاء المؤسسة. وهذا لا يرتبط بميزانية ضخمة، بل بـ نوع التفكير السائد داخل الكيان، ومدى استعداده للتكيّف مع التغيّرات دون أن يفقد هويته.
لهذا، تُقدّم ممارسة الإدارة رؤية حقيقية للإدارة كفعل ديناميكي لا يتوقف، يبدأ من الوعي، ويمرّ بالتحليل، ويُترجم في النهاية إلى تحسين واقعي في الأداء، يُبقي المؤسسة حاضرة، مؤثرة، وقادرة على النمو.
مستقبل الإدارة كعلم مستقل: حين تتحول المهارة إلى ضرورة حضارية
لا أحد يتخيّل طبيبًا ناجحًا دون تعليم حقيقي، أو مهندسًا يُصمم الجسور اعتمادًا على الفطرة. فلماذا إذًا تُدار مؤسسات كاملة، بأموال ومصالح وآلاف العاملين، بأسلوب التجربة والخطأ؟ هذا هو السؤال الصادم الذي يطرحه بيتر إف. دراكر في The Practice of Management أو ممارسة الإدارة، وهو يناقش قضية شديدة العمق: هل تُعامل الإدارة كعلم حقيقي؟ أم ما زالت تُترك للاجتهاد الفردي؟
في هذا المحور، يُقدّم الكتاب رؤية تتجاوز فكرة الإدارة كوظيفة إلى اعتبارها مجالًا معرفيًّا متكاملًا، له قواعده، ومنهجه، وتطوره، تمامًا كما هو الحال في مجالات مثل الطب أو القانون أو الاقتصاد. يرى دراكر أن تجاهل هذه الحقيقة هو أحد أكبر أسباب فشل المؤسسات، لأن العمل الإداري حين يُمارس بلا أسس علمية، يُصبح هشًّا، متذبذبًا، وغير قابل للتكرار أو التعلّم.
تخيل مؤسسة ناشئة بدأت بفريق صغير وطموح كبير. الأمور كانت تسير بحماس، لكن مع النمو السريع بدأت تظهر التحديات: تضارب في الصلاحيات، ضعف في التنسيق، تكرار في المهام، قرارات تُتخذ بدون معايير. النتيجة؟ تراجع في الأداء رغم ازدياد الجهد. لم يكن الخلل في الأشخاص، بل في غياب بنية إدارية مدروسة تُنظّم العمل، وتُوجّه الجهود، وتُقيم الأداء على أساس واقعي. هذا المثال يتكرر يوميًّا في الشركات التجارية والناشئة، وهو ما يجعل من الإدارة علمًا لا يمكن تجاهله.
ويُبرِز الكتاب عدة مبادئ تجعل من الإدارة علمًا يُمكن تدريسه وتطويره:
- وجود منهجية واضحة لاتخاذ القرار: لا تُبنى على التقدير الشخصي، بل على تحليل، تقييم، وبدائل مدروسة.
- استخدام أدوات قياس فعلية: تُظهر الأداء الحقيقي داخل كل قسم، وتساعد على تحسينه بصورة قابلة للمتابعة.
- تحليل السلوك التنظيمي: الإدارة ليست فقط تشغيل مهام، بل فهم ديناميكية العمل بين الأفراد، وطريقة تفاعلهم مع الأنظمة.
- بناء الهياكل الإدارية وفق طبيعة العمل: لا توجد وصفة واحدة لكل مؤسسة، بل يجب اختيار نوع الهيكل المناسب.
- دمج المعرفة التطبيقية مع التجربة الواقعية: لأن الفهم النظري وحده لا يكفي، ولا الخبرة العشوائية تؤسس لإدارة ناجحة.
الجميل في رؤية دراكر أن الإدارة ليست حكرًا على النخبة، بل علم يمكن تعلّمه وتطويره داخل المؤسسات من خلال التدريب، والممارسة، والتقييم المستمر. وهذا يفتح المجال أمام القادة الحقيقيين ليمتلكوا أدوات إدارة مؤسساتهم بعقلية متّزنة، لا تعتمد فقط على الخبرة، بل على الفهم العميق للعوامل المؤثرة في النجاح المؤسسي.
ومن المسائل التي يسلّط الضوء عليها الكتاب، أن غياب التعليم الإداري الجاد أدى إلى انتشار ممارسات سطحية، مثل التركيز على الشكل التنظيمي دون المحتوى، أو بناء قرارات بناءً على الانطباع لا البيانات. وهذا ما يُفرّق بين من يقوم بدور إداري مؤقت، ومن يفهم الإدارة كأداة لتغيير واقع المؤسسة نحو الأفضل.
في النهاية، حين تُدار الإدارة كعلم، يصبح الخطأ فرصة للتعلّم، والنجاح نتيجة منطقية لمنهجية صحيحة. أما حين تبقى في دائرة العشوائية، فكل إنجاز هو مجرد حظ، وكل مشكلة كارثة تُهدد الاستمرارية.
وهكذا يضع ممارسة الإدارة حجر الأساس لفهم جديد لدور المدير: ليس كمن يُشرف فقط، بل كمن يَبني، يُطوّر، ويؤسس علمًا يُمكن تعلّمه، وتوريثه، وتحديثه بما يتماشى مع العصر، وتحولات السوق، وتطلعات المؤسسة.
لشراء نسخة ورقية من الكتاب من خلال مكتبة جرير من خلال هذا الرابط